فصل: (فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ):

(وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَلَكَ الْمَبِيعَ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَنَالُ بِهِ نِعْمَةَ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ لِلتَّضَادِّ، وَلِهَذَا لَا يُفِيدُهُ قَبْضُ الْقَبْضِ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ.
وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ.
مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَوَجَبَ الْقول بِانْعِقَادِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ.
وَرُكْنُهُ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَفِيهِ الْكَلَامُ وَالنَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِاقْتِضَائِهِ التَّصَوُّرَ فَنَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعٌ، وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ مَا يُجَاوِرُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَقْرِيرِ الْفَسَادِ الْمُجَاوِرِ إذْ هُوَ وَاجِبُ الرَّفْعِ بِالِاسْتِرْدَادِ فَبِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ ضَعُفَ لِمَكَانِ اقْتِرَانِهِ بِالْقَبِيحِ فَيُشْتَرَطُ اعْتِضَادُهُ بِالْقَبْضِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَالْمَيْتَةِ بِمَالٍ فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ، وَلَوْ كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا فَقَدْ خَرَّجْنَاهُ وَشَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَهِيَ تَصْلُحُ ثَمَنًا لَا مُثَمَّنًا.
ثُمَّ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ دَلَالَةً كَمَا إذَا قَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ بِحُكْمِ التَّسْلِيطِ السَّابِقِ، وَكَذَا الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ لِيَتَحَقَّقَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ فَيَخْرُجُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ وَالرِّيحِ وَالْبَيْعِ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ، وَقولهُ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَلْزَمُهُ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ بِالْقَبْضِ فَشَابَهُ الْغَصْبَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ صُورَةً وَمَعْنًى أَعْدَلُ مِنْ الْمِثْلِ مَعْنًى.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ) قَالَ: (وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ) صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً كَمَا سَيَأْتِي (وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَالٌ مَلَكَ الْمَبِيعَ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الصَّحِيحِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَكَيْفَ بِالْفَاسِدِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ الْقِيمَةِ عَيْنًا إنَّمَا هُوَ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ، أَمَّا مَعَ قِيَامِهِ فِي يَدِهِ فَالْوَاجِبُ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ (مَحْظُورٌ فَلَا يَنَالَ بِهِ نِعْمَةَ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ؛ لِلتَّضَادِّ) بَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالنَّهْيِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ (وَلِهَذَا) أَيْ كَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ (لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَثَبَتَ قَبْلَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ (وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ) فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِانْتِفَاءِ مَشْرُوعِيَّةِ السَّبَبِ (وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَلَا فِي الْمَحَلِّيَّةِ وَرُكْنُهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَفِيهِ الْكَلَامُ) أَيْ الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدُ عِوَضَانِ هُمَا مَالَانِ.
قولهُ (نِعْمَةَ) الْمِلْكِ لَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلْ مَا وَضَعَهُ الشَّرْعُ سَبَبًا لِحُكْمٍ إذَا نَهَى عَنْهُ عَلَى وَضْعٍ خَاصٍّ فَفُعِلَ مَعَ ذَلِكَ الْوَضْعَ رَأَيْنَا مِنْ الشَّرْعِ أَنَّهُ أَثْبَتَ حُكْمَهُ وَأَتَمَّهُ.
أَصْلُهُ الطَّلَاقُ وَضَعَهُ لِإِزَالَةِ الْعِصْمَةِ وَنَهَى عَنْهُ بِوَضْعٍ خَاصٍّ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ حَائِضًا ثُمَّ رَأَيْنَاهُ أَثْبَتَ حُكْمَ طَلَاقِ الْحَائِضِ فَأَزَالَ بِهِ الْعِصْمَةَ حَتَّى أَمَرَ ابْنَ عُمَرَ بِالْمُرَاجَعَةِ رَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَثِمَ الْمُطَلِّقُ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي كُلِّ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ نَهَى عَنْ مُبَاشَرَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْفُلَانِيِّ إذَا بُوشِرَ مَعَهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَيَعْصِي بِهِ.
وَقولهُ النَّهْيُ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ: يَعْنِي يُفِيدُ انْتِفَاءَهَا مَعَ الْوَصْفِ، فَنَقول: مَا تُرِيدُ بِانْتِفَاءِ مَشْرُوعِيَّةِ السَّبَبِ كَوْنُهُ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ أَوْ كَوْنُهُ لَا يُفِيدُ حُكْمَهُ؟ إنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ سَلَّمْنَاهُ وَمَتَّعْنَا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ حُكْمَهُ مَعَ الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلنَّهْيِ كَمَا أَرَيْنَاك مِنْ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ مَحِلُّ النِّزَاعِ وَهُوَ حِينَئِذٍ مُصَادَرَةٌ حَيْثُ جَعَلْت مَحِلَّ النِّزَاعِ جُزْءَ الدَّلِيلِ.
لَا يُقَالُ فَلَا فَائِدَةَ لِلنَّهْيِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ التَّحْرِيمُ وَالتَّأْثِيمُ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ إذَا كَانَ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ رُكْنَ الْعَقْدِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا بِأَنْ عَقَدَ عَلَى الْخَمْرِ أَوْ الْمَيْتَةِ لِعَدَمِ الرُّكْنِ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ أَصْلًا فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فَوَضَعْنَا الِاصْطِلَاحَ عَلَى الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا تَمْيِيزًا فَسَمَّيْنَا مَا لَا يُفِيدُ بَاطِلًا وَمَا يُفِيدُهُ فَاسِدًا أَخْذًا مِنْ مُنَاسَبَةٍ لُغَوِيَّةٍ تَقَدَّمَتْ أَوَّلَ بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَا خَفَاءَ فِي حُسْنِ هَذَا التَّقْرِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكِفَايَتِهِ.
وَأَمَّا قول الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ (النَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ لِاقْتِضَائِهِ التَّصَوُّرَ) يُرِيدُونَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ يُقَرِّرُ مَشْرُوعِيَّتَهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ فَائِدَةٌ فَلَيْسَ بِذَاكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ النَّهْيِ عَنْهُ بِمَعْنَى إمْكَانِ فِعْلِهِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُثِيرِ لِلنَّهْيِ لَا يُفِيدُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ هَذَا الْمُتَصَوَّرَ يَقَعُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ.
وَإِنْ أَرَادُوا تَصَوُّرَهُ شَرْعِيًّا: أَيْ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ قَالُوا نُرِيدُ تَصَوُّرَهُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لَا مَعَ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مُثِيرُ النَّهْيِ.
قُلْنَا سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ الثَّابِتَ فِي صُورَةِ النَّهْيِ هُوَ الْمَقْرُونُ بِالْوَصْفِ فَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَهُ.
وَالْمَشْرُوعُ وَهُوَ أَصْلُهُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ غَيْرِ الثَّابِتِ هُنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَصْلًا إذْ نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ: أَعْنِي مَا لَمْ يُقْرَنْ بِالْوَصْفِ وَهُوَ مَفْقُودٌ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا، وَحِينَئِذٍ فَقولهُ (فَنَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعٌ وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ) يُقَالُ عَلَيْهِ مَا تُرِيدُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ أَوْ مَا فِيهِ؟ إنْ قُلْت: الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سَلَّمْنَاهُ وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ لَكِنَّ الثَّابِتَ الْبَيْعُ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ مَا فِيهِ الْوَصْفُ الْمُثِيرُ لِلنَّهْيِ فَلَا يُنَالُ بِهِ نِعْمَةُ الْمِلْكِ فَيَحْتَاجُ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ مَنْعِ أَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ مَعَ النَّهْيِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا.
قولهُ: (وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ مَا يُجَاوِرُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ) فَالْمُرَادُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِ النَّهْيِ لَعَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الرُّكْنِ وَإِلَّا فَالنَّهْيُ لِلْمُجَاوِرِ يُفِيدُ الْكَرَاهَةَ لَا الْحَظْرَ.
وَالنَّهْيُ لِلْوَصْفِ اللَّازِمِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ يُفِيدُ الْحَظْرَ، هَذَا إلَّا أَنِّي أَقول وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَا بِمَالٍ فِي شَرِيعَتِنَا.
فَإِنَّ الشَّارِعَ أَهَانَهُمَا بِكُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَعَنَ حَامِلَهَا وَمُعْتَصِرَهَا مَعَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ حَالَ الِاعْتِصَارِ، بَلْ الْمَوْجُودُ حِينَئِذٍ نِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَهِيَ مَالٌ فِي شَرْعِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَحَيْثُ أَمَرَنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَقَدْ أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِ بَيْعِهِمْ إيَّاهَا وَبَيْعِهِمْ بِهَا، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فِي بَيْعِ الْمُسْلِمِ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْعِهِمْ فَصَحِيحٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقولهُ (وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَى آخِرِهِ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا الْبَيْعُ يُفِيدُهُ حُكْمُهُ فَمَا وَجْهُ تَرَاخِيهِ عَنْهُ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ؟ فَأَجَابَ: وَحَاصِلُ الْوَجْهِ فِيهِ أَنَّا قَدْ أَرَيْنَاك أَنَّهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَأَنَّ مَا هُوَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ طَلَبَ الشَّرْعُ رَفْعَهُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَإِنْ تَرَتَّبَ حُكْمُهُ كَمَا أَمَرَ بِمُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ فَوَجَبَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَحَيْثُ أَمَرَنَا بِإِعْدَامِهِ بَعْدَ فِعْلِهِ صَارَ فِيهِ ضَعْفٌ، وَرَأَيْنَا حُكْمَ السَّبَبِ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَأَخَّرْنَاهُ إلَى الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ بِهِ يَتَأَكَّدُ الْعَقْدُ فَيُوجِبُ حِينَئِذٍ حُكْمَهُ كَالْهِبَةِ لَمَّا ضَعُفَ السَّبَبُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ.
وَقولهُ (كَيْ لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْرِيرِ الْفَسَادِ) أَيْ إلَى زِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ، فَإِنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَيْهِ تَزِيدُهُ وُجُودًا مَعَ أَنَّهُ وَاجِبُ الرَّفْعِ فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ.
وَقولهُ (وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا فَقَدْ خَرَّجْنَاهُ) يُرِيدُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ بُطْلَانِ الْبَيْعِ إذَا كَانَتْ مَبِيعًا؛ لِأَنَّ فِي جَعْلِهَا الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ إعْزَازًا لَهَا.
وَقولهُ (وَشَيْءٌ آخَرُ) أَيْ وَجْهٌ آخَرُ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ إذَا كَانَتْ مَبِيعَةً، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ حِينَئِذٍ تَسْلِيمُ قِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَسْلِيمِهَا وَتَسَلُّمِهَا، وَالْقِيمَةَ لَا تَكُونُ إلَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَتَصِيرُ الْقِيمَةُ مَبِيعَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ مَبِيعٍ.
وَهُوَ خِلَافُ وَضْعِ الشَّرْعِ فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ مِنْ أَنَّ الْمُقَابِلَ لِلسِّلَعِ مِنْ النُّقُودِ ثَمَنٌ: لَا يُقَالُ: لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ إذَا قُوبِلَتْ بِمِثْلِهَا صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَثَمَنًا، وَالْخَمْرُ قَدْ قُوبِلَتْ بِالدَّرَاهِمِ فَإِذَا نَزَلَتْ الْقِيمَةُ مَكَانَهَا صَارَتْ دَرَاهِمَ مُقَابَلَةً بِدَرَاهِمَ؛ لِأَنَّا نَقول: الثَّابِتُ هُنَا كَوْنُ كُلٍّ مَبِيعًا وَثَمَنًا، وَهُنَا يَلْزَمُ مَبِيعًا لَيْسَ غَيْرَ.
وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فِي الْفَاسِدِ الْقِيمَةَ لَا الثَّمَنَ وَالْمَدْفُوعُ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ قِيمَتَهَا آلَ إلَى الصَّرْفِ فَتَكُونُ الْقِيمَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَالْقِيمَةِ الَّتِي يَدْفَعُهَا الْمُشْتَرِي (ثُمَّ شَرَطَ) فِي الْمِلْكِ (أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ) مِنْ الْمَذْهَبِ (إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْإِذْنِ دَلَالَةً كَمَا إذَا) اجْتَرَّهُ فَـ (قَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ) وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْبَائِعُ (اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ بِحُكْمِ التَّسْلِيطِ السَّابِقِ) أَمَّا إذَا كَانَ أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ مَعَ غَيْبَةِ الْبَائِعِ، وَلَوْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَعْفِهِ عَنْ إفَادَةِ حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا هُوَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلصَّحِيحِ وَتُسَمَّى الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ضَعْفَهُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ بِمُجَرَّدِهِ لَا مَنْعِ قَبْضِهِ مُطْلَقًا، وَصَارَ كَالْهِبَةِ فِي ضَعْفِ السَّبَبِ مَعَ أَنَّ الْقَبْضَ فِيهَا (فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا) وَأَثَرُ الضَّعْفِ يَكْفِي فِيهِ كَوْنُ التَّسْلِيطِ الَّذِي يَثْبُتُ مُقَيَّدًا بِالْمَجْلِسِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَعَنْ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا كَانَ أَدَّى الثَّمَنَ بِمَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ أَخْذًا مِنْ إطْلَاقٍ سَيَأْتِي.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ مِنْ اشْتِرَاطِ إذْنِ الْبَائِعِ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ أَوْ كَانَ الثَّمَنُ خَمْرًا مَثَلًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ بِالْقَبْضِ، فَأَمَّا إذَا مَلَكَ بِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِذْنِ وَيَكُونُ قَبْضُ الثَّمَنِ مِنْهُ إذْنًا مِنْهُ بِالْقَبْضِ.
وَفِي الْمُجْتَبَى فِي التَّخْلِيَةِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقَبْضٍ، وَفِي الْخُلَاصَةِ التَّخْلِيَةُ كَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَفِي الْمُحِيطِ: بَاعَ عَبْدًا مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَاسِدًا وَاشْتَرَى عَبْدَهُ لِنَفْسِهِ فَاسِدًا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَعْمِلَهُ، وَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ: لَوْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ وَهِيَ حَاضِرَةٌ مَلَكَهَا.
وَقولهُ (فَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَالِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَدَمُ (الْبَيْعِ) وَبُطْلَانُهُ (بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ وَالْبَيْعِ بِالرِّيحِ وَالْبَيْعِ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ) كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ الْمَالِ فِي الْعِوَضِ، وَقَيَّدَ بِنَفْيِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ الثَّمَنِ فَلَمْ يَذْكُرَاهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ انْعَقَدَ فَاسِدًا وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ مُوجِبًا لِلْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْ عِوَضِهِ كَانَ عِوَضُهُ قِيمَتَهُ وَكَأَنَّهُ بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ.
وَقولهُ (لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ) يَعْنِي يَوْمَ الْقَبْضِ، وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِ فَأَتْلَفَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ فَلَا يَتَغَيَّرُ كَالْغَصْبِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَتْلَفَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ حِينَئِذٍ، كَذَا فِي الْكَافِي، وَهَذَا (فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَلْزَمُهُ الْمِثْلُ) وَمِنْهَا الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ (لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ) أَيْ بِالْقِيمَةِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ.
هَذَا وَالْقول فِي الْقِيمَةِ وَالْمِثْلِ قول الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ الضَّامِنُ، فَالْقول لَهُ فِي الْقَدْرِ وَالْبَيِّنَةُ فِيهِ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ) رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَهَذَا قَبْلَ الْقَبْضِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِدْ حُكْمَهُ فَيَكُونُ الْفَسْخُ امْتِنَاعًا مِنْهُ، وَكَذَا بَعْدَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لِقُوَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ بِشَرْطٍ زَائِدٍ فَلِمَنْ لَهُ الشَّرْطُ ذَلِكَ دُونَ مَنْ عَلَيْهِ لِقُوَّةِ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُرَاضَاةُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الشَّرْطُ.
قَالَ: (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ بَيْعُهُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَسَقَطَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِالثَّانِي وَنُقِضَ الْأَوَّلُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ، وَالثَّانِيَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ؛ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْعَبْدِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الشَّفِيعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَسْخُهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ) أَيْ لِلْمَعْصِيَةِ فَرَفْعُهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ مَكْرُوهٌ وَالْجَرْيَ عَلَى مُوجَبِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ تَمْلِيكٌ أَوْ انْتِفَاعٌ بِوَطْءٍ أَوْ لَبْسٌ أَوْ أَكْلٌ كَذَلِكَ: أَيْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِهِ شَرْعًا قَطْعِيٌّ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَعُرِفَ مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِرَفْعِ الْمَعْصِيَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُقَالَ: وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فَسْخُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ أَرَادَ مُجَرَّدَ بَيَانِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْفَسْخِ فَوَقَعَ تَعْلِيلُهُ أَخَصَّ مِنْ دَعْوَاهُ.
وَحَاصِلُ الْمَنْقول فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إلَى الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ ثَوْبٍ بِخَمْرٍ فَيَمْلِكُ كُلٌّ فَسْخَهُ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقَّ الشَّرْعِ فَفِيهِ إلْزَامُ مُوجِبِ الْفَسْخِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِعِلْمِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ أَيْضًا وَلَمْ يَحْكِ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْخِلَافَ (وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ بِشَرْطٍ زَائِدٍ) كَالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ وَنَحْوِهِ، أَوْ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَمْلِكُ فَسْخَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَسْتَقِلُّ (مَنْ لَهُ) مَنْفَعَةُ (الشَّرْطِ) وَالْأَجَلِ بِالْفَسْخِ كَالْبَائِعِ فِي صُورَةِ الْإِقْرَاضِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْأَجَلِ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ (دُونَ مَنْ عَلَيْهِ) عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّرْطِ إذَا كَانَتْ عَائِدَةً عَلَيْهِ صَحَّ فَسْخُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يُسْقِطَ الْأَجَلَ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، فَإِذَا فَسَخَهُ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَانْتَفَى اللُّزُومُ عَنْ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ تَمَكَّنَ كُلٌّ مِنْ فَسْخِهِ.
كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَالْكَافِي فَعَلَى هَذَا الْمَذْكُورُ هُنَا قول مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى حَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، أَمَّا إذَا زَادَ الْمُشْتَرَى فِي يَد الْمُشْتَرِي زِيَادَةً مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ أَوْ لَا أَوْ مُنْفَصِلَةً كَذَلِكَ أَوْ انْتَقَصَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْغَيْرِ بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا أَوْ أَجْنَبِيًّا فَسَنَذْكُرُهُ.
وَقولهُ (إلَّا أَنَّهُ) إلَى آخِرِهِ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى قولهِ لِقُوَّةِ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوِيًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْفَعَةُ الشَّرْطِ.
فَأَجَابَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُرَاضَاةُ فِي حَقِّهِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ.
قولهُ: (فَإِنْ بَاعَهُ) أَيْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا بَيْعًا صَحِيحًا (نَفَذَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَسَقَطَ حَقُّ) الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فِي (الِاسْتِرْدَادِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ) بِالْعَقْدِ (الثَّانِي وَنَقْضِ الْأَوَّلِ) مَا كَانَ إلَّا (لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْعَبْدِ) عِنْدَ مُعَارَضَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (يُقَدَّمُ) بِإِذْنِ اللَّهِ لِغِنَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسِعَةِ عَفْوِهِ وَجُودِهِ وَفَقْرِ الْعَبْدِ وَضِيقِهِ، وَلَا يَنْقُضُ بِالصَّيْدِ إذَا أَحْرَمَ مَالِكُهُ وَهُوَ فِي يَدِهِ حَيْثُ يُقَدَّمُ حَقُّ الشَّرْعِ عَلَى الْعَبْدِ.
لِأَنَّا نَقول: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إطْلَاقُهُ لَا إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَيُطْلِقُهُ بِحَيْثُ لَا يَضِيعُ عَلَيْهِ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ وَلَا يُنْقَضُ بِاسْتِرْدَادِ وَارِثِ الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْمُتَعَلِّقَ لِلْوَارِثِ هُوَ نَفْسُ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الرَّدِّ فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ كَذَلِكَ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ بِالْمَبِيعِ فَكَالْمُشْتَرِي الثَّانِي فَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْبَائِعِ اسْتِرْدَادُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لَهُ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا بِسَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ لَا بِتَصَرُّفٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ قِيلَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَيْضًا إنَّمَا يُنْقَلُ إلَيْهِ الْمَبِيعُ مَشْغُولًا بِذَلِكَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ فَلَا يَصِلُ مَا بَاعَهُ إلَى الْمُشْتَرِي إلَّا مَشْغُولًا بِذَلِكَ احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ وَأَيْضًا (الْأَوَّلُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ لَا وَصْفِهِ، وَالثَّانِي مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ)؛ لِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعَ الثَّانِيَ (حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ) أَيْ الْبَائِعِ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ مَعَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ تَسْلِيطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَإِلَّا كَانَ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ، قِيلَ عَلَيْهِ فَعَدَمُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ فِي بَيْعِ نَفْسِهِ حِينَئِذٍ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَبْلَ بَيْعِ الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفِهِ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِرْدَادِهِ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَائِنَ مِنْ جِهَتِهِ تَسْلِيطٌ عَلَى الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمُسَلَّطُ، وَهَذَا التَّسْلِيطُ نَفْسُهُ مَعْصِيَةٌ فَجُعِلَ لَهُ رَحْمَةً عَلَيْهِ أَنْ يُتَدَارَكَ بِالتَّوْبَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ الْفَوَاتِ بِفِعْلِ الْمُسَلَّطِ، فَإِذَا لَمْ يُتَدَارَكْ حَتَّى فَعَلَ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ عَبْدٍ فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُكْنَةَ بِتَقْصِيرِهِ، وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّ حَقَّ كُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لَيْسَ إلَّا لِتَدَارُكِ رَفْعِ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ، وَمَتَى أَخَّرَ حَتَّى تَعَلَّقَ حَقُّ عَبْدٍ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُوصَى لَهُ فَقَدْ فَوَّتَهُ.
أَمَّا الْوَارِثُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِخَلَاصِ مَيِّتِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مَا أَمْكَنَ فَشُرِعَ لَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ لِذَلِكَ.
وَهَذَا (بِخِلَافِ صَرْفِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ) بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الشَّفِيعِ، وَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَيَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ وَحَقَّ الْبَائِعِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُعَارِضُهُ، وَيَتَرَجَّحُ الشَّفِيعُ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّفِيعِ تَسْلِيطٌ عَلَى الشِّرَاءِ كَمَا فِي الْبَائِعِ.
وَأُورِدُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ مِنْ حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ ثَانٍ فَيَكُونُ نَاسِخًا.
أُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُنْسَخُ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْقُوَّةِ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَتَتَرَجَّحُ الشُّفْعَةُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ، وَبِالْإِعْتَاقِ قَدْ هَلَكَ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَبِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ انْقَطَعَ الِاسْتِرْدَادُ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ.
إلَّا أَنَّهُ يَعُودُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَكِّ الرَّهْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ عُذْرٌ؛ وَلِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ) الْمُرَادُ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا بِخَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ (فَأَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ) وَسَلَّمَهُ (فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ) فِيهِ (وَ) إنَّمَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ (بِالْإِعْتَاقِ قَدْ هَلَكَ) فَوَقَعَ الْإِيَاسُ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ (فَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ، وَبِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ انْقَطَعَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى مَا مَرَّ) فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مِنْ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ: أَعْنِي الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ وَالِاسْتِرْدَادُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقِّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ فَقَدْ فَوَّتَ الْمُكْنَةَ بِتَأْخِيرِ التَّوْبَةِ.
(وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ) بَعْدَ قَبْضِهِ (نَظِيرُ الْبَيْعِ) يَعْنِي إذَا كَاتَبَ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ رَهَنَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ (لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ) لِحَقِّ الْعَبْدِ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ (إلَّا أَنَّهُ يَعُودُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَكِّ الرَّهْنِ) وَلَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِمَا بِذَلِكَ، بَلْ يَعُودُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ إذَا انْتَقَضَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، ثُمَّ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ إنَّمَا يَعُودُ إذَا لَمْ يَقْضِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قَضَى بِهَا عَلَيْهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِلْكِهِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِتَحَوُّلِ حَقِّهِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَبَقَ فَقَضَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَيْسَ لِمَالِكِهِ أَخْذُهُ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَقولهُ (وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ) فَإِنَّهُ إذَا أَجَّرَ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ (لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ وَرَفْعُ الْفَسَادِ عُذْرٌ؛ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَكُونُ) الِاسْتِرْدَادُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ (امْتِنَاعًا) عَنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَالنِّكَاحُ كَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَإِذَا زَوَّجَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ شِرَاءً فَاسِدًا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الرَّقَبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُهُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّ مَعَ الِاسْتِرْدَادِ النِّكَاحَ قَائِمٌ كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا الْبَائِعُ، نَعَمْ تَصِيرُ بِحَيْثُ لَهُ مَنْعُهَا وَعَدَمُ ثُبُوتِهَا مَعَهُ بَيْتًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ظَفِرَ بِهَا لَهُ وَطْؤُهَا.
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ أَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ وَأَخَذَ مُوجَبَ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ وَيَرُدُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ بَطَّنَهُ وَحَشَاهُ انْقَطَعَ الِاسْتِرْدَادُ كَمَا فِي الْغَصْبِ؛ وَلَوْ صَبَغَهُ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَيَّرُ الْبَائِعُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَإِعْطَاءِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ وَتَرْكِهِ وَتَضْمِينِ قِيمَتِهِ كَالْغَصْبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ انْقَطَعَ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ إذَا فَعَلَهُ الْمُشْتَرِي انْقَطَعَ بِهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الصَّبْغَ بِالصُّفْرَةِ يَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَالْغَصْبِ وَلَا يَمْتَنِعُ الِاسْتِرْدَادُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي فَيَسْتَرِدُّ الْبَائِعُ مِنْ الْوَارِثِ وَلَا بِمَوْتِ الْبَائِعِ فَيَسْتَرِدُّ وَارِثُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَزِيَادَةُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا لَا تَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ، إلَّا إذَا كَانَتْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي كَالْخِيَاطَةِ وَالصَّبْغِ، وَنُقْصَانُهُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَمْنَعُ فَيَسْتَرِدُّهُ الْبَائِعُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَيْهِ وَيُضَمِّنَهُ تَمَامَ الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ بِفِعْلٍ أَجْنَبِيٍّ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنْ الْجَانِي، وَفِي قَتْلِ الْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُ الْجَانِي.
وَلَوْ وَطِئَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ مِنْهُ وَلَا الِاسْتِرْدَادُ مِنْ الْبَائِعِ، فَلَوْ رَدَّ أَوْ اسْتَرَدَّ لَزِمَهُ الْعُقْرُ لِلْبَائِعِ، أَمَّا إنْ أَتْلَفَهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّ الْمَبِيعُ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ (وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَالرَّاهِنِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الثَّمَنِ قَائِمَةً يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً أَخَذَ مِثْلَهَا لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الثَّمَنَ) قِيلَ يَعْنِي الْقِيمَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَوْ الثَّمَنَ الَّذِي تَرَاضَيَا عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ حَتَّى يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ (لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ) وَعَلَى هَذَا الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ وَالرَّهْنُ الْفَاسِدُ وَالْقَرْضُ الْفَاسِدُ اعْتِبَارًا بِالْعَقْدِ الْجَائِزِ إذَا تَفَاسَخَا فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَحْبِسَ مَا اسْتَأْجَرَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ الَّتِي دَفَعَهَا لِلْمُؤَجِّرِ.
وَكَذَا الْمُرْتَهِنُ حَتَّى يَقْبِضَ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عُقُودُ مُعَاوَضَةٍ فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ (وَلَوْ مَاتَ الْبَائِعُ) بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ الْمُؤَجِّرُ إجَارَةً فَاسِدَةً أَوْ الرَّاهِنُ أَوْ الْمَقْبُوضُ كَذَلِكَ، فَاَلَّذِي فِي يَدِهِ الْمَبِيعُ أَوْ الرَّهْنُ أَحَقُّ بِثَمَنِهِ مِنْ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ (لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ) إلَّا أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِ مَا أَعْطَى فَمَا فَضَلَ فَلِلْغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَقْبِضْ الْمُحْتَالُ الدَّيْنَ أَوْ الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الْمُحْتَالُ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ أَوْ الْوَدِيعَةِ مَعَ أَنَّ دَيْنَ الْمُحِيلِ صَارَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْمُحْتَالِ كَمَا فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ إنَّمَا يُوجِبُهُ ثُبُوتُ الْحَقِّ مَعَ الْيَدِ لَا مُجَرَّدُ الْحَقِّ وَلَا يَدَ لِلْمُحْتَالِ (ثُمَّ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الثَّمَنِ) الَّتِي دَفَعَهَا (قَائِمَةً يَأْخُذُهَا) الْمُشْتَرِي (بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ) خِلَافًا لِمَا ذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الصَّرْفِ، وَرِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ تَتَعَيَّنُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لَكِنْ سَيَأْتِي مَا يُقَوِّيَ رِوَايَةَ أَبِي حَفْصٍ (لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ) وَالثَّمَنُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ (وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (لَهُ أَخْذُ مِثْلِهَا) وَكَذَا ذَكَرَ قَاضِي خَانْ.
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُبَاعُ الْمَبِيعُ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَمَّا دَفَعَهُ يُصْرَفُ إلَى الْغُرَمَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ مِثْلُ حَقِّهِ الْمُسْتَهْلَكِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ دَارًا بَيْعًا فَاسِدًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ.
(وَقَالَا: يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَتُرَدُّ الدَّارُ) وَالْغَرْسُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ.
لَهُمَا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَضْعَفُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَضَاءِ وَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ، بِخِلَافِ حَقِّ الْبَائِعِ، ثُمَّ أَضْعَفُ الْحَقَّيْنِ لَا يَبْطُلُ بِالْبِنَاءِ فَأَقْوَاهُمَا أَوْلَى، وَلَهُ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ وَقَدْ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّسْلِيطُ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِهِبَةِ الْمُشْتَرِي وَبَيْعِهِ فَكَذَا بِبِنَائِهِ وَشَكَّ يَعْقُوبُ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ دَارًا بَيْعًا فَاسِدًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي) أَوْ غَرَسَ فِيهَا أَشْجَارًا (فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا) وَانْقَطَعَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي اسْتِرْدَادِهَا بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَيُقْلَعُ الْغَرْسُ (وَتُسْتَرَدُّ الدَّارُ. لَهُمَا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ) فِي الدَّار الَّتِي يَسْتَحِقُّ فِيهَا الشُّفْعَةَ (أَضْعَفُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ) بَيْعًا فَاسِدًا فِي الِاسْتِرْدَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ (يَحْتَاجُ) فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الدَّارِ (إلَى الْقَضَاءِ وَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ) بَعْدَ الْعِلْمِ وَلَا يُورَثُ.
وَحَقُّ هَذَا الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ وَيَثْبُتُ لِوَرَثَتِهِ (وَ) الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ (حَقَّ الشُّفْعَةِ الْأَضْعَفَ لَا يُبْطِلُ الْبِنَاءَ) وَالْغَرْسَ (فَأَقْوَاهُمَا) وَهُوَ حَقُّ الْبَائِعِ (أَوْلَى) أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِمَا فَيَثْبُتُ بِدَلَالَةِ ثُبُوتِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ وَقَدْ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَيَنْقَطِعُ) بِهِ (حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ) وَالْهِبَةِ (بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ) وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ (لَمْ يُوجَدْ) مَا يُبْطِلُهُ وَهُوَ تَسْلِيطُهُ عَلَى الْفِعْلِ: أَعْنِي الْبِنَاءَ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ النَّقْضُ وَالْقَلْعُ (وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ) أَيْضًا بَلْ يَأْخُذُهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ بِتَسْلِيطٍ مِنْهُ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أَنْكَرَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ الرِّوَايَةَ لِمُحَمَّدٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ؛ فَقول الْمُصَنِّفِ (وَشَكَّ يَعْقُوبُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) بِذَلِكَ، قَالُوا إنَّهُ شَكَّ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ لَا فِي مَذْهَبِهِ: يَعْنِي أَنَّ مَذْهَبَهُ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْبِنَاءَ وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي (فَإِنَّ مُحَمَّدًا نَصَّ عَلَى) هَذَا (الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ) فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا بَنَى فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا شُفْعَةَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي الدَّارِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، فَلَوْلَا قولهُ بِانْقِطَاعِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ بِالْبِنَاءِ لَمْ يُوجِبْ الشُّفْعَةَ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّ حِكَايَةَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ قول أَبِي يُوسُفَ لِمُحَمَّدٍ مَا رَوَيْت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا وَإِنَّمَا رَوَيْت لَك أَنَّهُ يَنْقُضُ الْبِنَاءَ فَقَالَ بَلْ رَوَيْت لِي أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا صَرِيحٌ فِي الْإِنْكَارِ لَا فِي الشَّكِّ، وَصَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْقُلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمَا وَعَدَمَ الْخِلَافِ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ) مَعْنَاهُ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَوُجُودُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِهِ وَعَدَمُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِهِ، وَعَلَى هَذَا فَثُبُوتُهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ بِالْجَرِّ.
وَجَمَاعَةٌ مِنْ الشَّارِحِينَ قَالُوا: وَثُبُوتُهُ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ وَعَلَى الِاخْتِلَافِ خَبَرُهُ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَبْنِيٍّ وَالْمَعْنَى: ثُبُوتُ حَقِّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْخِلَافِ، فَعِنْدَهُ يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَهُوَ قَائِلٌ بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَوْجَهَ ثُبُوتُهُ بِثُبُوتِ انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَالْمَعْنَى حَقُّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتُ انْقِطَاعِهِ بِهِ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ فَلَهُ الْقَلْعُ وَالْهَدْمُ، وَعِنْدَهُ يَنْقَطِعُ فَلَا يُسْتَرَدُّ.
وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ أَنَّ طَلَبَ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ لَا وَقْتَ الشِّرَاءِ.
وَأُورِدُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا وَجَبَ نَقْضُهُمَا لِحَقِّ الشَّفِيعِ وَفِيهِ تَقْرِيرٌ لِلْفَسَادِ فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ نَقْضُهُمَا لِحَقِّ الْبَائِعِ وَهُوَ أَقْوَى وَفِيهِ إعْدَامُ الْفَسَادِ.
أُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ جَانٍ وَلَا جِنَايَةَ مِنْ الشَّفِيعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ النَّقْضِ لِأَجْلِ مَنْ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ النَّقْضُ لِمَنْ جَنَى.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا نُقِضَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ لِأَجْلِ الشَّفِيعِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ عَنْ الْعَبْدِ.
أُجِيبُ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ إنَّمَا يَزُولُ بَعْدَ مِلْكِ الشَّفِيعِ فَيَثْبُتُ حَقُّ نَقْضِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ حُكْمًا لِمِلْكِهِ.
هَذَا وَقولهُمَا أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ قول أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْبِنَاءَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ يَمْنَعُ الِاتِّفَاقَ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى إيجَابِ الْقَلْعِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ لِلْبَقَاءِ وَقَدْ لَا، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِر يَعْلَمُ أَنَّهُ يُكَلَّفُ الْقَلْعَ فَفِعْلُهُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْبَقَاءَ، قُلْنَا: الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا أَيْضًا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ عِنْدَنَا، وَقولكُمْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَحِلُّ النِّزَاعِ فَأَقَلُّ الْأَمْرِ أَنْ يَعْلَمَ الْخِلَافَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُكَلَّفَ النَّقْضَ فَفِعْلُهُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِهِ عَدَمَ الْبَقَاءِ إلَّا مُدَّةً مَا.
وَأَمَّا تَعْلِيلُ بَعْضِهِمْ لَهُ بِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ فَبَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ عَبْدًا آخَرَ اشْتَرَاهُ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا أَوْ قَبْلَ الْهِبَةِ فِيهِ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ نَفْسُ الْعَاقِدِ الْجَانِي بِعَقْدِهِ هُوَ الَّذِي بَنَى فَلَا يَسْتَحِقُّ بِجِنَايَتِهِ.
وَفِعْلُهُ الْمُقَرِّرُ لِمَعْصِيَتِهِ أَنْ يَقْطَعَ حَقَّ الْقَاصِدِ لِلتَّوْبَةِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّصَلَ بِهِ حَقُّ مَنْ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَذِنَ فِي تَقْدِيمِ حَقِّهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَيَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهَا فَيَتَمَكَّنُ الْخُبْثُ فِي الرِّبْحِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَتَعَيَّنَانِ عَلَى الْعُقُودِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعَقْدُ الثَّانِي بِعَيْنِهَا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْخُبْثُ فَلَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ، وَهَذَا فِي الْخُبْثِ الَّذِي سَبَبُهُ فَسَادُ الْمِلْكِ، أَمَّا الْخُبْثُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ لِتَعَلُّقِ الْعَقْدِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ حَقِيقَةً، وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ أَوْ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ، وَعِنْدَ فَسَادِ الْمِلْكِ تَنْقَلِبُ الْحَقِيقَةُ شُبْهَةً وَالشُّبْهَةُ تَنْزِلُ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَضَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُدَّعِي فِي الدَّرَاهِمِ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ)؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ لِفَسَادِ الْمِلْكِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَجَبَ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بِالتَّصَادُقِ، وَبَدَلُ الْمُسْتَحِقِّ مَمْلُوكٌ فَلَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا فَبَاعَهَا) الْمُشْتَرِي (وَرَبِحَ فِيهَا تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَيَطِيبُ لِبَائِعِهِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ) الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي إذَا عَمِلَ فَرَبِحَ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمَالَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَنَوْعٌ يَتَعَيَّنُ وَهُوَ مَا سِوَاهُمَا.
وَالْخُبْثُ نَوْعَانِ: خُبْثٌ فِي الْبَدَلِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِي الْمُبْدَلِ، وَخُبْثٌ لِفَسَادِ الْمِلْكِ.
فَالْخُبْثُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ يَعْمَلُ فِي النَّوْعَيْنِ حَتَّى أَنَّ الْغَاصِبَ أَوْ الْمُودَعَ إذَا تَصَرَّفَا فِي الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ وَهُمَا عَرَضٌ أَوْ نَقْدٌ وَأَدَّيَا ضَمَانَهُمَا وَفَضَلَ رِبْحٌ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالِ الْغَيْرِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْخُبْثِ، وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ بَدَلَ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ بِمِثْلِهِ فِي الذِّمَّةِ، لَكِنَّهُ إنَّمَا تَوَسَّلَ إلَى الرِّبْحِ بِالْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ فَتَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبْحِ بِمَالِ الْغَيْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ أَنَّ نَقْدَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ أَوْ تَقْدِيرَ الثَّمَنِ إنْ أَشَارَ إلَى الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُعْتَبَرَةٌ كَالْحَقِيقَةِ فِي أَبْوَابِ الرِّبَا، وَالْخُبْثَ لِفَسَادِ الْمِلْكِ دُونَ الْخُبْثِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَيُوجِبُ شُبْهَةَ الْخُبْثِ فِيمَا يُوجِبُ فِيهِ عَدَمُ الْمِلْكِ حَقِيقَةَ الْخُبْثِ، وَهُوَ مَا يَتَعَيَّنُ كَالْجَارِيَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَيَتَعَدَّى إلَى بَدَلِهَا.
وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ فِيمَا يُوجِبُ فِيهِ عَدَمُ الْمِلْكِ الشُّبْهَةَ وَهُوَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ، وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَهُوَ نَهْيُهُ عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ فَلَا يَتَعَدَّى، وَإِلَّا اُعْتُبِرَ مَا دُونَهَا كَشُبْهَةِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهَلُمَّ فَيَنْسَدُّ بَابُ التِّجَارَةِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ، فَلِذَا قَالَ: يَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِالرِّبْحِ فِيهَا وَيَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ: إنَّهُ لَا تَتَعَيَّنُ النُّقُودُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ تَتَعَيَّنُ فَحُكْمُ الرِّبْحِ فِي النَّوْعَيْنِ كَالْغَصْبِ لَا يَطِيبُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ رِوَايَةَ التَّعْيِينِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ هُوَ الْأَصَحُّ، فَحِينَئِذٍ الْأَصَحُّ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ عَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا بِمَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي طَيِّبِ الرِّبْحِ صَرِيحُ الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ، فَإِنَّ فِيهِ مُحَمَّدًا عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا بِأَلْفٍ وَتَقَابَضَا وَرَبِحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا قَبَضَ قَالَ: يَتَصَدَّقُ الَّذِي قَبَضَ الْجَارِيَةَ بِالرِّبْحِ وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا كَمَا قَالَ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ) أَيْ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهَا مِنْ الشَّرِكَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ، وَقول بَعْضِهِمَا اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ وَالشَّرِكَةِ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْبِيَاعَاتِ أَوْ الْمُعَاوَضَاتِ مَذْكُورًا لِلْمُصَنِّفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ شَرْطُ الطِّيبِ الضَّمَانُ وَقَدْ وُجِدَ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَطِيبُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَهَلَكَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَهُمَا كَمَا فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ وَعِنْدَنَا لَا يَبْطُلُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا وَيُعْطِيَ مِثْلَهَا عِنْدَهُمَا.
قولهُ: (وَكَذَلِكَ إلَخْ).
قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَضَاهُ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُدَّعِي فِي الدَّرَاهِمِ الَّتِي قَبَضَهَا عَلَى أَنَّهَا دَيْنُهُ (يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ لِفَسَادِ الْمِلْكِ هُنَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَجَبَ بِالتَّسْمِيَةِ) أَيْ بِالْإِقْرَارِ عِنْدَ دَعْوَاهُ الْمَالَ (ثُمَّ اسْتَحَقَّ بِالتَّصَادُقِ) فَكَانَ الْمَقْبُوضُ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ الدَّيْنُ (وَبَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ) أَيْ مِلْكًا فَاسِدًا سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، أَمَّا عَيْنًا فَبِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ أَوْ ثَوْبٍ ثُمَّ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ يَصِحُّ عِتْقُ الْعَبْدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكًا لَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ، إذْ لَا عِتْقَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالْعَبْدُ بَدَلُ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ.
وَإِذَا مَلَكَهُ فَاسِدًا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ خُبْثًا فَطَابَ لَهُ الرِّبْحُ.
وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِقَاضِي خَانْ: بَدَلُ الْمُسْتَحَقُّ مَمْلُوكٌ بِدَلِيلِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَبَاعَهُ الْمَدْيُونُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَقَبَضَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِهَذَا الْبَيْعِ فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ فَلَمْ يَحْنَثْ، وَبَيَانُ فَسَادِ الْمِلْكِ فِي بَدَلِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الْمُبْدَلَ يَجِبُ رَدُّهُ وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ؛ وَلَوْ حَصَلَ الرِّبْحُ فِي دَرَاهِمَ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ تَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخُبْثِ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْ دَرَاهِمَ فِيهَا شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ شُبْهَةِ الْخُبْثِ فَلَا تُعْتَبَرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِلْكَهُ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ أَنَّهُ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ بَدَلًا عَمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، أَمَّا لَوْ كَانَ فِي أَصْلِ دَعْوَاهُ الدَّيْنَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَدَفَعَ إلَيْهِ لَا يَمْلِكُهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ فِيمَا يُكْرَهُ):

قَالَ: (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّجْشِ) وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ وَقَال: «لَا تَنَاجَشُوا» قَالَ: (وَعَنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:«لَا يَسْتَمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ»؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إيحَاشًا وَإِضْرَارًا، وَهَذَا إذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى مَبْلَغٍ ثَمَنًا فِي الْمُسَاوَمَةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَرْكَنْ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَهُوَ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ وَلَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَحْمَلُ النَّهْيِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا.
قَالَ: (وَعَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ) وَهَذَا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ، إلَّا إذَا لَبَّسَ السِّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ فَحَيْثُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغُرُورِ وَالضَّرَرِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِيمَا يُكْرَهُ):
لَمَّا كَانَ دُونَ الْفَاسِدِ أَخَّرَهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ دُونَهُ فِي حُكْمِ الْمَنْعِ الشَّرْعِيِّ بَلْ فِي عَدَمِ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْكَرَاهَاتُ كُلُّهَا تَحْرِيمِيَّةٌ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْإِثْمِ.
وَمُقْتَضَى النَّظَرِ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أُصُولِنَا الشِّرَاءُ عَلَى سَوْمِ الْآخَرِ بِشَرْطِهِ، وَالْحَاضِرُ لِلْبَادِي فِي الْقَحْطِ وَالْإِضْرَارِ فَاسِدًا، وَتَلَقِّي الْجَلَبِ إذَا لَبِسَ بَاطِلًا أَوْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقُهُ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا لِصَارِفٍ.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةُ سَبَبًا لِلنَّهْيِ تُؤَكِّدُ الْمَنْعَ لَا تَصْرِفُهُ عَنْهُ، فَإِنَّ فِي اعْتِرَاضِ الرَّجُلِ عَلَى سَوْمِ الْآخَرِ بَعْدَ الرُّكُونِ وَطِيبِ نَفْسِ الْبَائِعِ بِالْمُسَمَّى إثَارَةً لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَيَحْرُمُ ذَلِكَ، وَشِرَاءُ مَا جِيءَ بِهِ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ لِيُغَالِيَ عَلَى النَّاسِ ضَرَرٌ عَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَحْرُمُ، وَكَذَا الْبَيْعُ مِنْ الْقَادِمِينَ مَعَ حَاجَةِ الْمُقِيمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ سِعْرَ الْبَلَدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُنْعَقِدٍ لِعَدَمِ الرِّضَا بِهِ كَقول مَالِكٍ، أَوْ مُنْعَقِدًا وَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ كَقول الشَّافِعِيِّ، وَكَوْنُ الْوَصْفِ مُجَاوِرًا أَوْ لَازِمًا لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَا إذْ الِاصْطِلَاحَاتُ لَا تَنْفِي الْمَعَانِيَ الْحَقِيقَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلْبُطْلَانِ أَوْ الْفَسَادِ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْفَسَادِ لَيْسَ إلَّا كَوْنَ الْعَقْدِ مَطْلُوبَ التَّفَاسُخِ لِلْمَعْصِيَةِ بِمُبَاشَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيَمْلِكُ الْبَدَلَ مِنْهُ بِالْقَبْضِ، وَتَأَخُّرُ الْمِلْكِ إلَى الْقَبْضِ لَيْسَ إلَّا لِوُجُوبِ رَفْعِ الْمَعْصِيَةِ بِرَفْعِهِ، وَيَجِبُ فِي هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ ذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَنْعُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ الظَّنِّيَّةِ سَمَّوْهُ مَكْرُوهًا عَلَى اصْطِلَاحِنَا، وَلَمَّا كَانَ الرُّكْنُ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي ثَابِتًا جَعَلْته فَاسِدًا.
قولهُ: (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّجْشِ، وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ) بَعْدَمَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا فَإِنَّهُ تَغْرِيرٌ لِلْمُسْلِمِ ظُلْمًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا فَزَادَ الْقِيمَةَ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نَفْعُ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِغَيْرِهِ إذْ كَانَ شِرَاءُ الْغَيْرِ بِالْقِيمَةِ.
(قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَنَاجَشُوا») فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» وَالنَّجَشُ بِفَتْحَتَيْنِ وَيُرْوَى بِسُكُونِ الْجِيمِ.
قولهُ: (وَعَنْ السَّوْمِ) أَيْ وَنَهَى عَنْ السَّوْمِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي لَفْظِ «لَا يَبِعْ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ إلَى أَنْ قَال: «وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» وَعَرَفْت مُثِيرَهُ وَهُوَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيحَاشِ وَالْإِضْرَارِ، وَشَرْطَهُ وَهُوَ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِثَمَنٍ وَيَقَعَ الرُّكُونُ بِهِ فَيَجِيءُ آخَرُ فَيَدْفَعُ لِلْمَالِكِ أَكْثَرَ أَوْ مِثْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ رَجُلٌ وَجِيهٌ فَيَبِيعُهُ مِنْهُ لِوَجَاهَتِهِ.
وَأَمَّا صُورَةُ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ بِأَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى ثَمَنِ سِلْعَةٍ فَيَجِيءُ آخَرُ فَيَقول أَنَا أَبِيعُك مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِأَنْقَصَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ فَيَضُرُّ بِصَاحِبِ السِّلْعَةِ فَظَهَرَ تَصْوِيرُ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَالسَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَالْوَارِدُ فِيهِمَا حَدِيثَانِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ لَفْظِ الْبَيْعِ فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» جَامِعًا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَجَازًا، إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرِدْ حَدِيثُ الِاسْتِيَامِ، وَكَذَا مَحِلُّهُ فِي الْخِطْبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا فَهُوَ بَيْعُ مَنْ يُزِيدُوا وَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُ.
قولهُ: (وَعَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ».
قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا.
وَلِلتَّلَقِّي صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ الْمُشْتَرُونَ لِلطَّعَامِ مِنْهُمْ فِي سَنَةِ حَاجَةٍ لِيَبِيعُوهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ بِزِيَادَةٍ، وَثَانِيَتُهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ بِأَرْخَصَ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِالسِّعْرِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّة أَنَّهُ إذَا خَرَجَ إلَيْهِمْ لِذَلِكَ أَنَّهُ يَعْصَى، أَمَّا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ بَلْ اتَّفَقَ أَنْ خَرَجَ فَرَآهُمْ فَاشْتَرَى فَفِي مَعْصِيَتِهِ قولانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَهُمْ يَعْصِي، وَالْوَجْهُ لَا يَعْصِي إذَا لَمْ يَلْبَسْ.
وَعِنْدَنَا مَحْمَلُ النَّهْيِ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ أَوْ لَبِسَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَضُرَّ وَلَمْ يَلْبَسْ فَلَا بَأْسَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي) فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا يَبِعْ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي» وَهَذَا إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي قَحْطٍ وَعَوَزٍ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ.
قَالَ: (وَالْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ) قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ثُمَّ فِيهِ إخْلَالٌ بِوَاجِبِ السَّعْيِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَذَانَ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَالَ: (وَكُلُّ ذَلِكَ يُكْرَهُ) لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي مَعْنًى خَارِجٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ) وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ الْفُقَرَاءِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى نَوْعٍ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ (وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي) تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمَحْمَلُ النَّهْيِ (إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي عَوَزٍ) أَيْ حَاجَةٍ (أَوْ قَحْطٍ وَهُوَ يَبِيعُ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي) لِلْإِضْرَارِ بِهِمْ وَهُمْ جِيرَانُهُ (أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ) وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هُوَ أَنْ يَمْنَعَ السِّمْسَارَ الْحَاضِرُ الْقَرَوِيَّ مِنْ الْبَيْعِ وَيَقول لَهُ لَا تَبِعْ أَنْتَ أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْك فَيَتَوَكَّلُ لَهُ وَيَبِيعُ وَيُغَالِي.
وَلَوْ تَرَكَهُ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ لَرَخَّصَ عَلَى النَّاسِ.
وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ زَادَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَفِي الْمُجْتَبَى: هَذَا التَّفْسِيرُ أَصَحُّ، ذَكَرَهُ فِي زَادِ الْفُقَهَاءِ لِمُوَافَقَتِهِ الْحَدِيثَ، وَعَلَى هَذَا فَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سِمْسَارًا لَيْسَ هُوَ تَفْسِيرُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَهُوَ صُورَةُ النَّهْيِ بَلْ تَفْسِيرٌ لِضِدِّهَا وَهِيَ الْجَائِزَةُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّمْسَارِ وَتَعَرُّضِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ عِلِّيَّةِ نَهْيِ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي قَالَ: الْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سِمْسَارًا فَنَهَى عَنْهُ لِلسِّمْسَارِ.
قولهُ: (وَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ. قَالَ تعالى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} إلَى قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}) كَأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوَقْتَ مِنْ حِينِ الْأَذَانِ مَشْغُولًا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ تَعْظِيمًا لَهَا كَمَا قَالُوا فِي النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ التَّغَيُّرِ (وَفِيهِ) زِيَادَةُ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى (الْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ السَّعْيِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَذَانَ الْمُعْتَبَرَ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ) وَهُوَ مَا يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَقولهُ (كُلُّ ذَلِكَ يُكْرَهُ) أَيْ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ إلَى هُنَا يُكْرَهُ: أَيْ لَا يَحِلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا حَتَّى يَجِبَ الثَّمَنُ) وَيَثْبُتَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ، لَكِنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدَّمْنَا قول مَالِكٍ بِالْبُطْلَانِ فِيهِ وَفِي النَّجْشِ.
وَكَذَا بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَعَلَّلَ الصِّحَّةَ (بِأَنَّ الْفَسَادَ) فِيهِ (فِي مَعْنًى خَارِجٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ) وَاسْتَشْكَلَهُ فِي الْكَافِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْدِ لَيْسَ فِي صُلْبِهِ قَالَ: إلَّا أَنْ يَئُولَ الْخَارِجُ بِالْمُجَاوِرِ، وَأَنْتَ عَلِمَتْ مَا عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ.
قولهُ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ) وَهُوَ صِفَةُ الْبَيْعِ الَّذِي فِي أَسْوَاقِ مِصْرَ الْمُسَمَّى بِالْبَيْعِ فِي الدَّلَالَةِ (لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ: أَمَّا فِي بَيْتِك شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ، قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا، فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ فَأْسًا فَأْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ».
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ حِلْسًا وَقَدَحًا فِيمَنْ يَزِيدُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ وَقَالَ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ: سَأَلَتْ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: الْأَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ ثِقَةٌ.
قولهُ: (نَوْعٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ: أَيْ الَّذِي لَا يَحِلُّ عَلَى مَا عَرَفْت أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَحْرِيمِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فَصَّلَهُ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ لِمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ أَوْ؛ لِأَنَّهَا مَسَائِلُ يَجْمَعُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ التَّفْرِيقُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ مَلَكَ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَبِيرًا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
«وَوَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ الْغُلَامَانِ؟ فَقَالَ: بِعْت أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: أَدْرِكْ أَدْرِكْ، وَيُرْوَى: اُرْدُدْ اُرْدُدْ»؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ فَكَانَ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا قَطْعُ الِاسْتِئْنَاسِ، وَالْمَنْعُ مِنْ التَّعَاهُدِ وَفِيهِ تَرْكُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ، وَقَدْ أَوْعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ الْمَنْعُ مَعْلُولٌ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ مَحْرَمٌ غَيْرُ قَرِيبٍ وَلَا قَرِيبٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ حَتَّى جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُ الصَّغِيرَيْنِ لَهُ وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ بِحَقِّ مُسْتَحِقٍّ لَا بَأْسَ بِهِ كَدَفْعِ أَحَدِهِمَا بِالْجِنَايَةِ وَبَيْعِهِ بِالدَّيْنِ وَرَدِّهِ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِهِ.
قَالَ: (فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَ الْعَقْدُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا.
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِدْرَاكِ وَالرَّدِّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَإِنَّمَا الْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ فَشَابَهُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَامِ (وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ وَكَانَتَا أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ مَلَكَ مَمْلُوكَيْنِ) بِأَيِّ سَبَبِ فَرْضٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ شِرَاءً أَوْ هِبَةً أَوْ مِيرَاثًا (صَغِيرَيْنِ) أَوْ (أَحَدُهُمَا وَبَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرَّمَةٌ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا) سَوَاءٌ كَانَ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَذَكَرَهُ بِصُورَةِ النَّفْيِ مُبَالَغَةً فِي الْمَنْعِ، وَلَا يُنْظَرُ فِي الْوَصِيَّةِ إلَى جَوَازِ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْمَوْتُ إلَى انْقِضَاءِ زَمَانِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْهُومٌ (وَالْأَصْلُ فِيهِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول («مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ») وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ؛ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَنُظِرَ فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ حُيَيِّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُخَرَّجْ لَهُ فِي الصَّحِيحِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَلِلِاخْتِلَافِ فِيهِ لَمْ يُصَحِّحْهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِقِصَّةٍ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:؟ «مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا» وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَفِيهِ طَلِيقُ بْنُ مُحَمَّدٍ، تَارَةً يَرْوِيهِ عَنْهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَتَارَةً عَنْهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، وَتَارَةً عَنْ طَلِيقٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.
وَقول ابْنِ الْقَطَّانِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ طَلِيقًا لَا يُعْرَفُ حَالُهُ يُرِيدُ خُصُوصَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَشُهْرَةٌ وَأَلْفَاظٌ تُوجِبُ صِحَّةَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فِيهِ، وَهُوَ مَنْعُ التَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّ فِي سَوْقِهَا طُولًا عَلَيْنَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: «وَهَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتُ أَحَدَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَلِيُّ مَا فَعَلَ غُلَامُك؟ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: رُدَّهُ رُدَّهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَتَعَقَّبَهُ أَبُو دَاوُد بِأَنَّ مَيْمُونًا لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنْ أَنَّ الْمُرْسَلَ مِنْ أَقْسَامِ الضَّعِيفِ وَعِنْدَنَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَأَمَرَنِي بِبَيْعِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتهمَا وَفَرَّقْت بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا وَبِعْهُمَا جَمِيعًا فَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا» وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَنَفَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْعَيْبَ عَنْهُ وَقَالَ: هُوَ أَوْلَى مَا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَلَا يَضُرُّ عَلَى أَصْلِنَا عَلَى مَا عُرِفَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ) أَيْ يُصْلِحُ شَأْنَهُ (فَكَانَ فِي التَّفْرِيقِ قَطْعُ الِاسْتِئْنَاسِ وَالْمَنْعُ مِنْ التَّعَاهُدِ وَفِيهِ تَرْكُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ، وَقَدْ أَوْعَدَ عَلَيْهِ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي الْأَدَبِ.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا مَالِكُ بْنُ أَبِي الْخَيْرِ الزِّيَادِيُّ عَنْ أَبِي قُنْبُلٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُبَجِّلْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» وَعَلَى نَحْوِ الْأَوَّلِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مَعْنًى مَشْهُورٌ لَا شَكَّ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ الْمَنْعُ مَعْلُولٌ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَدْخُلُهُ مَحْرَمٌ غَيْرُ قَرِيبٍ) كَمَحْرَمِ الرَّضَاعِ وَامْرَأَةِ الْأَبِ (وَلَا قَرِيبُ غَيْرُ مَحْرَمٍ) كَابْنِ الْعَمِّ (وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ حَتَّى جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ) وَمَوْرِدُهُ كَانَ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ كَمَا فِي الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَالْأَخَوَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْخَالِ وَابْنِ أُخْتِهِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ أُخْتِهَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مَا وَرَدَ إلَّا فِي الْوَالِدَةِ وَالْأَخَوَيْنِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُحَرِّمَةَ تُثْبِتُ مَعْنًى دَلَالِيًّا وَهُوَ الْمَفْهُومُ الْمُوَافِقُ فِي عُرْفِ الشَّافِعِيَّةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ خُصُوصَ الْوَالِدَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّ الْوَالِدَ أَيْضًا مِثْلُهَا فَفُهِمَ مِنْهُ قَرَابَةُ الْوِلَادِ ثُمَّ جَاءَ نَصُّ الْأَخَوَيْنِ، فَعُلِمَ أَنْ لَا قَصْرَ عَلَى الْوِلَادِ بَلْ الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ فَثَبَتَ فِي الْخَالِ وَالْخَالَةِ بِالدَّلَالَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْأَوْلَوِيَّةِ فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَفْهُومِ بَقِيَ إيرَادُ نَقْضِ الْعِلَّةِ بِثَمَانِيَةِ مَسَائِلَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةَ، مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَهِيَ: مَا إذَا كَانَ التَّفْرِيقُ بِحَقٍّ مُسْتَحِقٍّ كَدُفَعِ أَحَدِهِمَا بِجِنَايَةٍ، أَوْ اسْتِيلَاءِ دَيْنٍ لَزِمَ الصَّغِيرَ كَاسْتِهْلَاكِهِ مَالَ الْغَيْرِ مَعَ أَنَّهُ فِي دَفْعِهِ غَيْرُ مَجْبُورٍ إذْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ الْفِدَاءَ وَالدَّيْنَ وَيَسْتَبْقِيَهُ وَرَدَّهُ وَحْدَهُ بِعَيْبٍ بِحِصَّتِهِ فَيَرُدُّهُ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمْسِكُهُمَا كَمَا فِي مِصْرَاعِي الْبَابِ إذَا وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا.
وَالرَّابِعَةُ أَنْ يُدَبِّرَ أَحَدَهُمَا أَوْ يَسْتَوْلِدَ الْأَمَةَ وَحِينَئِذٍ جَازَ بَيْعُهُ الْآخَرُ وَالْخَامِسَةُ أَنْ يَكُونَ لِحَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا، فَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مَعَ أَنَّ الْمَنْعَ كَمَا هُوَ لِلْبَائِعِ كَذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَالسَّادِسَةُ لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فِي مِلْكِهِ أَحَدُهُمْ صَغِيرٌ حَلَّ بَيْعُ أَحَدِ الْكَبِيرَيْنِ مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.
وَالسَّابِعَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتِقَ أَحَدَهُمَا بِمَالٍ وَبِلَا مَالٍ وَيُكَاتِبَهُ مَعَ أَنَّهُ حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ.
وَالثَّامِنَةُ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مُرَاهِقًا فَرَضِيَ بِالْبَيْعِ وَاخْتَارَهُ وَرَضِيَتْهُ أُمُّهُ جَازَ بَيْعُهُ، فَالْجَوَابُ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ: (لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ) فِي مَنْعِ التَّفْرِيقِ (دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ) وَهُوَ الصَّغِيرُ (لَا) إلْحَاقُ (الضَّرَرِ بِهِ) أَيْ بِالْمَالِكِ الْمَفْهُومِ مِنْ قولهِ وَمَنْ مَلَكَ مَمْلُوكَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ مَنَعْنَا التَّفْرِيقَ كَانَ إلْزَامًا لِلضَّرَرِ بِالْمَالِكِ، وَالْعِلَّةُ هِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْتَلْزِمِ ضَرَرًا بِالْمَالِكِ، فَعِنْدَ اسْتِلْزَامِهِ تَكُونُ عِلَّةُ الْمَنْعِ مُنْتَفِيَةً عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ أَوْ مُخَصَّصَةً بِاسْتِلْزَامِ ضَرَرِهِ عِنْدَ مَنْ يُخَصِّصُهَا، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ الرَّابِعِ إذْ يَلْزَمُ الْمَالِكَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِمَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ رَأْسًا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ بَيْعُهُمَا وَالِانْتِفَاعُ بِبَدَلِهِمَا.
وَعَنْ الْخَامِسِ بِأَنَّ مَفْسَدَةَ التَّفْرِيقِ عَارَضَهَا هُنَا بِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِهِ أَحَدٌ يَذْهَبُ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَمَفْسَدَةُ كَوْنِهِ هُنَاكَ يَشِبُّ وَيَكْتَهِلُ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ التَّفْرِيقِ عَلَى الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَالدِّينُ ظَاهِرٌ وَالدُّنْيَا تَعْرِيضُهُ عَلَى الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَالسَّبْيُ هَلَاكٌ.
وَيَجِيءُ مَا ذَكَرْنَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَعَدَمِهِ.
وَعَنْ السَّادِسِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا هُوَ مَظِنَّةُ الضَّيَاعِ وَالِاسْتِيحَاشِ، وَقَدْ بَقِيَ لَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الثَّالِثِ.
عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَمْتَنِعُ بَيْعُ الثَّالِثِ فِي الْكِفَايَةِ قَدْ اجْتَمَعَ فِي الصَّغِيرِ عَدَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدٍ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ كَالْعَمِّ وَالْخَالِ، أَوْ اتَّحَدَتْ كَخَالَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْحِشُ بِفِرَاقِ الْكُلِّ، وَعَنْ السَّابِعِ بِأَنَّ الْعِتْقَ وَالْكِتَابَةَ عَيْنُ الْجَمْعِ لَا التَّفْرِيقِ فَإِنَّ الْمُعْتَقَ وَالْمُكَاتَبَ يَزُولُ الْحَجَرُ عَنْهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْكَوْنِ مَعَ أَخِيهِ حَيْثُمَا كَانَ وَأَيْنَمَا صَارَ، وَعَنْ الثَّامِنِ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا لَمَّا اخْتَارَا ذَلِكَ فَقَدْ تَحَقَّقْنَا خُلُوَّ الْوَصْفِ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ عَنْ الْحِكْمَةِ فَلَا يُشْرَعُ مَعَهُ الْحُكْمُ فَآلَ الْكُلُّ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَمِنْ صُوَرِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ إذَا كَانَ لِلذِّمِّيِّ عَبْدٌ لَهُ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ مِنْهُ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ وَوَلَدُهُ صَغِيرٌ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ الذِّمِّيُّ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ وَابْنِهِ وَإِنْ كَانَ تَفْرِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ فَهَذَا تَفْرِيقٌ بِحَقٍّ.
قولهُ: (فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ ذَلِكَ وَجَازَ الْعَقْدُ) إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا حُرًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا، أَمَّا إذَا كَانَ كَافِرًا فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ.
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّفْرِيقُ فِي مِلَّتِهِمْ حَلَالًا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ إلَّا إنْ كَانَ بَيْعُهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ فَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي مِلَّتِهِمْ لَا يَجُوزُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ قول أَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرِكْهُمَا وَارْتَجِعْهُمَا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِدْرَاكِ وَالِارْتِجَاعِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ (وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ وَالْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ) وَالنَّهْيَ لِلْمُجَاوَرَةِ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ بِخِلَافِهِ لِوَصْفٍ لَازِمٍ (فَشَابَهُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَامِ) عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِالْإِدْرَاكِ وَالِارْتِجَاعِ عَلَى طَلَبِ الْإِقَالَةِ مَعَ ظُهُورِ أَنْ يُقِيلَهُ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ الْإِقَالَةِ أَوْ أَنْ يَبِيعَ الْأَخُ لِآخَرَ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُدَّةَ مَنْعِ التَّفْرِيقِ إنَّمَا تَمْتَدُّ إلَى بُلُوغِ الصَّغِيرِ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ بِالْحَيْضِ.
وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا فِي الْمَبْسُوطِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَالتَّفْرِيقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ» وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَقِيلَ إلَى مَتَى؟ فَقَالَ: إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ» رَفَعَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ.
وَفِي أَظْهَرْ قوليْهِ إلَى زَمَانِ التَّمْيِيزِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ بِالتَّقْرِيبِ، وَإِلَى زَمَانِ سُقُوطِ الْأَسْنَانِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَخَطَّأَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ، وَقَالَ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَسَبَبُهُ أَنَّ فِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَسَّانَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: كَذَّابٌ، وَقِيلَ رَمَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ بِالْكَذِبِ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَعْدَ الْبُلُوغِ حُكْمٌ ثَابِتٌ شَرْعًا، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إذَا رَاهَقَا وَرَضِيَا بِالتَّفْرِيقِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَرُبَّمَا يَرَيَانِ الْمُصْلِحَةَ فِي ذَلِكَ.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ) لِيَثْبُتَ فِيهِ الْمَنْعُ إلْحَاقًا بِالدَّلَالَةِ إذْ كَانَ أَصْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ.
قَالَ الْبَزَّارُ بَعْدَ أَنْ غَلَّطَهُ لِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ ذَكَرَهَا، لَكِنْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ وَدَلَّهُمْ بْنِ دَهْثَمٍ انْتَهَى وَبَشِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ الْقِبْطِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارِيَتَيْنِ وَبَغْلَةً كَانَ يَرْكَبُهَا، فَأَمَّا إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ فَتَسَرَّاهَا فَوَلَدَتْ لَهُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مَارِيَةُ أُمُّ إبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا الْأُخْرَى فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ» وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ آخَرَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مُرْسَلًا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقِسِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَأَهْدَى لَهُ مَعَ حَاطِبٍ كِسْوَةً وَبَغْلَةً مَسْرُوجَةً وَجَارِيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أُمُّ إبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَوَهَبَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِجُهَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْعَبْدِيِّ وَهِيَ أُمُّ زَكَرِيَّا بْنِ جُهَيْمٍ الَّذِي كَانَ خَلِيفَةَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ» وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى حَاطِبٍ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة فَجِئْتُ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَنِي فِي مَنْزِلِهِ فَأَقَمْت عِنْدَهُ ثُمَّ بَعَثَ إلَيَّ وَجَمَعَ بَطَارِقَتَهُ، إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذِهِ هَدَايَا أَبْعَثُ بِهَا مَعَك إلَى مُحَمَّدٍ، فَأَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ جِوَارٍ مِنْهُنَّ أُمُّ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاحِدَةٌ وَهَبَهَا لِأَبِي جُهَيْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ» فَهَذَا يُعْلَمُ مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ الْجَارِيَتَيْنِ كَانَتَا أُخْتَيْنِ وَهُوَ مَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ.
لَا جَرَمَ ذَكَرَ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ الْكَلَاعِيُّ فِي كِتَابِ الِاكْتِفَاءِ عَنْ الْوَاقِدِيِّ بِإِسْنَادٍ لَهُ: أَنَّ الْمُقَوْقِسَ أَرْسَلَ إلَى حَاطِبٍ لَيْلَةً إلَى أَنْ قَالَ: فَارْجِعْ إلَى صَاحِبِكَ فَقَدْ أَمَرْت لَهُ بِهَدَايَا وَجَارِيَتَيْنِ أُخْتَيْنِ فَارِهَتَيْنِ وَبَغْلَةٍ مِنْ مَرَاكِبِي وَأَلْفِ مِثْقَالٍ ذَهَبًا وَعِشْرِينَ ثَوْبًا مِنْ لِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَرْت لَك بِمِائَةِ دِينَارٍ وَخَمْسَةِ أَثْوَابٍ فَارْحَلْ مِنْ عِنْدِي وَلَا تَسْمَعْ مِنْك الْقِبْطُ حَرْفًا وَاحِدًا فَهَذَا مَعَ تَوْثِيقِ الْوَاقِدِيِّ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ أَسَلَفنَا تَوْثِيقَهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَنَقَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي خَاتِمَةِ مَنَاقِبِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَوَّبَ أَبُو دَاوُد لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَذْكُورَاتِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَغَزَوْنَا فَنَارَةً، إلَى أَنْ قَالَ: فَجِئْت بِهِمْ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَفِيهِمَا امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ، فَنَفَلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَلَمَةَ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ، فَقُلْت هِيَ لَك، فَفَدَى بِهَا أُسَارَى مَكَّةَ» انْتَهَى مُخْتَصَرًا فَهَذَا التَّفْرِيقُ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ لَكِنْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَهُ وَاسْتَوْهَبَ الْجَارِيَةَ وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى أُمِّهَا بَلْ أَبْعَدَ دَارَهَا حِينَ فَدَى بِهَا، فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْكَبِيرِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ:
إذَا كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَبَوَاهُ لَا يَبِعْ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أُمٌّ وَأَخٌ أَوْ أُمٌّ وَعَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ أَوْ أَخٌ جَازَ بَيْعُ مَنْ سِوَى الْأُمِّ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ لَا يُبَاعُونَ إلَّا مَعًا اعْتِبَارًا لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُمِّ تُغْنِي عَمَّنْ سِوَاهَا وَلِذَا كَانَتْ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ غَيْرِهَا، فَهَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَالْجَدَّةُ كَالْأُمِّ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ جَدَّةٌ وَعَمَّةٌ وَخَالَةٌ جَازَ بَيْعُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ لَمْ يُبَاعُوا إلَّا مَعًا لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ مَعَ اتِّحَادِ الدَّرَجَةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَخَوَانِ أَوْ إخْوَةٌ كِبَارٌ، فِي رِوَايَةِ الْأَمَالِي لَا يُبَاعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَنْ سِوَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ؛ لِأَنَّ الشَّفَقَةَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَبْعَدُ مَعَ الْأَقْرَبِ.
وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي الدَّرَجَةِ وَالْجِهَةِ أَحَدُهُمَا يُغْنِي، وَكَذَا لَوْ مَلَكَ سِتَّةَ إخْوَةٍ ثَلَاثَةٌ كِبَارٌ وَثَلَاثَةٌ صِغَارٌ فَبَاعَ مَعَ كُلِّ صَغِيرٍ كَبِيرًا جَازَ اسْتِحْسَانًا، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ بَاعَ غَيْرَ الشَّقِيقَةِ؛ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ فَصَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ ثُمَّ مَلَكُوا جُمْلَةُ الْقِيَاسِ أَنْ يُبَاعَ أَحَدُهُمَا لِاتِّحَادِ جِهَتِهِمَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُبَاعُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ فَاحْتَمَلَ كَوْنَهُ الَّذِي يَبِيعُ فَيَمْتَنِعُ احْتِيَاطًا فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ أَحَدُهُمْ أَبْعَدُ جَازَ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانُوا فِي دَرَجَةٍ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ لَا يُفَرِّقُ، وَلَكِنْ يُبَاعُ الْكُلُّ أَوْ يُمْسِكُ الْكُلَّ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْأَخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ وَالْخَالَيْنِ جَازَ أَنْ يُمْسِكَ مَعَ الصَّغِيرِ أَحَدَهُمَا وَيَبِيعَ مَا سِوَاهُ؛ وَمِثْلُ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ أَخٌ لِأَبٍ وَأَخٌ لِأُمٍّ؛ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.